المادة    
ثبت في الحديث المتفق عليه عن أمير المؤمنين عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: {كنا في جنازة في بقيع الغرقد} وهذا الموقف -موقف الموت- من أبلغ المواقف في قلوب البشر، وكثير من النَّاس لا يرِق قلبه ولا يلين لا في مسجد ولا في حلقة علم ولا ذكر؛ لكنه عند مشهد الموت وحين يدفن يقر الميت في قلبه الإيمان ويخشع ويعترف بتقصيره وذنبه، وربما كَانَ ذلك بداية لأن يلين قلبه لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيما بعد.
ولهذا كَانَ من السنة أن تزار المقابر، وأن تشيع الجنائز، فالنَّاس يعتبرون ويتعظون بمن سبقهم إِلَى الدار الآخرة.
ثُمَّ يقول: {فأتانا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقعد وقعدنا حوله} فقعد رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُفهِّم ويُعلِّم ويذكر النَّاس في الموقف المهيب، وتحلق الصحابة الكرام حوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجلسوا جلسة مهيبة كَانَ عَلَى رؤوسهم الطير من الخشوع ومن استحضار هيبة هذا الموقف، وهيبة السؤال، وجلوسهم بين يد المعلم الأكبر صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والواعظ البليغ ليعظهم ويرقق قلوبهم في هذا الموقف.
ثُمَّ قَالَ: {ومعه مخصرة} أي: عصاً صغيرة ينكت بها الأرض {فنكس رأسه، فجعل ينكت بمخصرته} هذه الرواية تقول: (فنكس رأسه) أي: النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً أطرق رأسه وأخذ ينكت بمخصرته الأرض ويبحث بها، وهذا دليل عَلَى أن الإِنسَان يكون مشغولاً بأمر عظيم، فلو دخلت عَلَى إنسان ورأيته جالساً عَلَى هذه الهيئة لاستشعرت أنه يفكر في أمر عظيم، وأنه يريد أن يقول شيئاً عظيماً.
ثُمَّ رفع صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه وخاطب أصحابه بهذه الموعظة البليغة فقَالَ: {ما من نفس منفوسة -وفي رواية: ما منكم من أحد- إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النَّار}، والصحابة الكرام رضوان الله تَعَالَى عليهم في هذا الموقف، وقد دفنوا أخاً لهم، كل منهم يفكر في هذا الإِنسَان هل هو من أهل الجنة، أو من أهل النار؟
كل إنسان منهم مشغول، وكيف لو كَانَ أحدنا مكانه ماذا يكون جوابنا، وهل نثبت أو لا نثبت؟
وكانت قلوب أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حية بذكر الله، وكانت الآخرة حاضرة أمام أعينهم كأنهم يرونها دائماً، وذلك لحياة قلوبهم.
فكأنهم يرونها بأبصارهم، ففي هذا الوقت جاءتهم هذه الموعظة من النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيخبرهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر عظيم لو تفطن له الإِنسَان لأخذه العجب العجاب فَيَقُولُ: {ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النَّار} والآن نَحْنُ الأحياء ما منا أحد إلا وقد كتب الله مكانه إما في الجنة أو النار، والعجيب أننا نتفكر في هذا الميت أهو شقي أم سعيد؟ أما نَحْنُ الأحياء فلا يخطر ببالنا أن كل واحد منا مكتوب أنه شقي أو سعيد.
  1. الأعمال مكتوبة والنهاية معروفة

    فهم الصحابة الكرام رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أن الأعمال مكتوبة، ونهاية هذه الأعمال معروفة، إما الجنة أو النار، فهي مكتوبة عند الله، فسأله الصحابة، حتى تعرفوا أن الصحابة الكرام هم أعلم وأذكى وأفطن وأبلغ النَّاس وأفقههم، ولم يأت بعدهم من هو قريب منهم في هذه الصفات فضلاً عن أن يكون مثلهم.
    جاء هذا السؤال الذي يتساءل النَّاس به دائماً والذي كثيراً ما يخطر عَلَى لسان، أو عَلَى قلب كل أحد، ويسأل بعضهم بعضاً، ما دام أنه مكتوب كل ما أعمل والنهاية معروفة ومحددة ففيم العمل؟ قال رجل منهم: أفلا نمكث عَلَى ما كتب لنا وندع العمل؟
    والحقيقة أن هذا السؤال له أجوبة كثيرة، وقد يبسط جواب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتفرع منه أجوبة، لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائماً يجيب بالجواب العملي المقنع السريع، فلو أن إنساناً قَالَ: أنا لا أريد أن أعمل خيراً ولا شراً، وإنما أكتفي بكتابي، وأدع العمل، فهذا مستحيل أن يحصل، ومستحيل أن يبقى جماد لا يتحرك، فمثلاً المؤذن: إن ذهب إِلَى المسجد عمل خيراً، وإن لم يذهب عمل شراً، ومن رأى منكراً أمامه إن نهى عن المنكر عمل خيراً، وإن لم ينه عنه عمل شراً، ومن أكل من حلال عمل خيراً، وإن أكل من حرام عمل شراً.
  2. الإنسان حارث وهمام

    انظر إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قَالَ: {وأحب الأسماء إِلَى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام}، فلا بد فيه من حكمة، لأن الرجل قد يسميه أبوه ظالماً، وهو رجل عادل، فاسمه هذا غير صادق، كما أنك عندما تسمي ذلك البخيل اللئيم كريم فاسمه غير صادق، لكن التسمية بحارث وهمام أسماء صادقة.
    فمن النَّاس من يكدح ليلاً ونهاراً في المعاصي والذنوب فهو حارث، وكذلك آخر أعماله كلها خير فهو حارث، فيكون هذا الاسم أصدق الأسماء، وأصدق الأسماء أيضاً همام، لأن الإِنسَان أياً كَانَ ذا خير أو شر يمدح أو يذم فهو حارث وهمام، فإنه يحرث -لا بد له من عمل- وهمام لأنه يهم بخير أو شر، وهذا بمعنى الإرادة.
    فسواء حرث خيراً أو شراً فهذا أصدق الأسماء، وهو حقيقة الإِنسَان النفسية وهي أنه لا يخلو فكره عن العمل قط.
  3. وبالمثال يتضح المقال

    يقول ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: فكر الإِنسَان كالطاحون يدور، ثُمَّ يدور، وهكذا الإِنسَان لا يتوقف عن الهمّ، فإن الإِنسَان في أي لحظة وهو مستيقظ يفكر في شيء، والفكر يدور ويجول ولا يتوقف، فإن شغل فكره بالتفكير في الله عَزَّ وَجَلَّ وفي آياته وخلقه وأمره ونهيه ووعده ووعيده، واجتهد في طاعة الله فنتيجة ذلك أنه سيعمل أعمالاً صالحة بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن لم يشغل وقته في التفكير في أعمال الخير، فإنه سيفكر في ضدها من أعمال الشر.
    وجاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تَعَالَى فيه، ولم يصلوا عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إلا كَانَ عليهم ترة يَوْمَ القِيَامَةِ} أي: نقصاً، وحسرة، وندامة يَوْمَ القِيَامَةِ، وذلك أنهم لم يذكروا الله في هذا المجلس فيمر هذا الوقت خسارة عليهم.
    ولهذا فالسؤال بأننا نتكل عَلَى ما كتب وندع العمل، قلنا: إنه غير وارد لأنك يا أيها الإِنسَان حارث وهمام قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ))[الانشقاق:6] خيراً كَانَ أو شراً، تكدح فتلاقيه، ويقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه))[الإسراء:84] قال ابن عباس وغيره: عَلَى طريقته.
    فكل إنسان بحسب إرادته ونيته يعمل، ولا يوجد إنسان لا يعمل أبداً، فلابد أن يعمل، فإما أن يكون الكدح والعمل عَلَى نهج، فيه خير وسنة وطاعة، فهذا مقبول، وإما أن يكون العمل عَلَى نهج وطريقة فيها فجور وضلال وشر، فيكون العمل والكدح شراً ضائعاً، ولهذا قال: ((فَمُلاقِيهِ)).
    ثُمَّ فصل فقَالَ: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)) [الانشقاق:7] ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)) [الانشقاق:10] أي: النَّاس الذين يعملون ويكدحون فإنهم لن يخرجوا عن هذا الأمر، إما أن يكونوا من أصحاب اليمين، وإما من أصحاب الشمال.
    فلابد من معرفة قيمة الزمن وقيمة العمر من قيمة الفكر نفسه، ولابد من محاسبة هذا القلب القاسي المتحجر كم مضى عليه من دهور لم يخشع لله عَزَّ وَجَلَّ، ولم يلن له، ولابد من التفكير في أعمارنا، فالكل في لهو وفي لعب، والكل في الباطل والحرام إلا من رحم الله، والأحرى أن نبكي عَلَى فوات العمر الذي ضاع في غير طاعة، وأن نبادر بالتوبة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نتدارك هذا العمر، ولهذا قال عَزَّ وَجَلَّ: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)) [فاطر:37] أي: أعطيناكم مهلة كافية حتى يتذكر كل ذي لب، ويرجع عن غيه، ويعرف طريق الهدى المستقيم ((وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)) إن كَانَ النذير هو الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد جَاءَ إِلَى من بعث فيهم، وسنته جاءت إِلَى من بعده، وفسره بعض السلف بأنه الشيب، وهو نذير مفارقة هذه الحياة، فإذا عمر الإِنسَان وجاءه النذير فقد أعذر الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَى من بلغ الستين ولم يتب
    .
    فالإِنسَان إما أن يعمل خيراً أو يعمل شراً، ولهذا جَاءَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجواب يتضمن هذا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة} فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب بجوابين متضمن لما ذكرنا وزيادة وهو أنه عندما سئل ألا نمكث عَلَى كتابنا وندع العمل قَالَ: {بل اعملوا فكل ميسر لما خلق الله..}.
    ففي الحالين الشيء الموجود الذي لا بد منه هو: العمل، وإنما الخلاف فيما يكون العمل، أهو عمل خير، أو عمل شر، ويتحدد هذا بالتيسير من الله عَزَّ وَجَلَّ.
    فمن كَانَ من أهل السعادة فإنه ميسر لعمل أهل السعادة، وهل في ذلك ظلم؟
    جَاءَ في رواية أخرى للحديث: {لما قال عمران بن حصين رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: لأختبرن أبا الأسود الدؤلي قال: أفلا يكون ظلماً، يكتب عليهم ثُمَّ يدخلهم الجنة أو النَّار. قال: ففزعت فزعاً شديداً، قلت: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: إنما سألتك لأحزر عقلك}.
    فانظر إِلَى قوة فكره وعقله، أين الظلم من هذا التيسير الذي يسره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ أمر مشاهد محسوس، فإذا رأيت الإِنسَان يقرأ القُرْآن، ويحب مجالس الذكر، ويحب مخالطة أهل الخير، ويحرص عَلَى ما يقربه إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فنقول: إنه من أهل السعادة، مع أننا لا نقطع لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النَّار، لكن الذي نقطع به أننا نقول: إن الذي يعمل الطاعات ويكره المعاصي والمنكرات فهذا هو سبيل أهل السعادة، وأن الذي يعمل المعاصي ويحب أهل المعاصي.
    فنقول: إن هذا هو سبيل أهل الشقاوة والفجور، وإلا فلا يجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبا لهب وحمالة الحطب وأبيَّ بن خلف وأمية وأمثالهم الذين عذبوا المؤمنين مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وقاتلوا وقتلوا، فإن هَؤُلاءِ مشو في طريق آخر، وكل من الطريقين سيؤدي بصاحبه إِلَى النتيجة التي لا بد منها، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ يسر لهَؤُلاءِ عمل أهل السعادة، ويسر لأولئك عمل أهل الشقاوة.
  4. هداية العبد للإيمان فضل ومِنّة من الله تعالى

    فأما من سلك سبيل السعادة ووفق في الثبات عليها فمن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فضلاً ومنةً وكرماً، ولهذا فإن الصحابة الكرام لما أنشدوا كانوا يقولون: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا). وكما قال تعالى: ((يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [الحجرات:17] فالمنِّة لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك من يُسر لعمل أهل الشقاوة فهذا عدل، وليس في كلا الحالتين ظلم.
    ولهذا لما احتج المُشْرِكُونَ عَلَى الشرك بالمشيئة في قولهم: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)))) [الأنعام:148] قلنا: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رد عليهم بالحجة العظيمة وهي إرسال الرسل فقَالَ: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36] فليس هناك حجة وقد جاءتكم الرسل تنذركم كما قال الله تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) [النحل:36] فالمجرمون حق عليهم الضلالة فلم يوفقهم الله للهداية، لأنهم أهلاً لئن يكونوا من أهل الشقاوة، فقد كانوا يرون أنفسهم عَلَى الشر بالسير في طريق الشقاوة، ولم يحاولوا أن ينصرفوا إِلَى الخير مع قيام الحجة عليهم، ووضوح البينة واستبانة الطريقة. ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له}.